تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 345 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 345

345 : تفسير الصفحة رقم 345 من القرآن الكريم

** ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلّ مَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} أي أمماً وخلائق {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ, وعلمه قبل كونهم أمة بعد أمة, وقرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, وخلفاً بعد سلف, {ثم أرسلنا رسلنا تترى} قال ابن عباس يعني يتبع بعضهم بعضاً, وهذا كقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت, فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة}. وقوله: {كلما جاء أمة رسولها كذبوه} يعني جمهورهم وأكثرهم, كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}. وقوله: {فأتبعنا بعضهم بعض} أي أهلكناهم كقوله: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح}. وقوله: {وجعلناهم أحاديث} أي أخباراً وأحاديث للناس كقوله: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق}.

** ثُمّ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ * إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه بالاَيات والحجج الدامغات والبراهين القاطعات, وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين, كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر, تشابهت قلوبهم فأهلك الله فرعون وملأه, وأغرقهم في يوم واحد أجمعين, وأنزل على موسى الكتاب وهو التوراة, فيها أحكامه وأوامره ونواهيه, وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر, وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين, كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون}.

** وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه جعلهما آية للناس, أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء, فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر, وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى. وقوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال الضحاك عن ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض, وهو أحسن ما يكون فيه النبات, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة.
قال ابن عباس: وقوله: {ذات قرار} يقول ذات خصب {ومعين} يعني ماء ظاهراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة. وقال مجاهد: ربوة مستوية, وقال سعيد بن جبير {ذات قرار ومعين} استوى الماء فيها. وقال مجاهد وقتادة {ومعين} الماء الجاري. ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة: من أي أرض هي ؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر, والماء حين يسيل يكون الربى عليها القرى, ولولا الربى غرقت القرى, وروي عن وهب بن منبه نحو هذا, وهو بعيد جداً.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: هي دمشق, قال: وروي عن عبد الله بن سلام والحسن وزيد بن أسلم وخالد بن معدان نحو ذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {ذات قرار ومعين} قال: أنهار دمشق. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد {وآويناهما إلى ربوة} قال: عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها. وقال عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقول في قول الله تعالى: {إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي, حدثنا رواد بن الجراح, حدثنا عبد الله بن عباد الخواص أبو عتبة, حدثنا الشيباني عن ابن وعلة عن كريب السحولي عن مرة البهذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: «إنك تموت بالربوة, فمات بالرملة», وهذا حديث غريب جداً وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: المعين الماء الجاري, وهوالنهر الذي قال الله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سري} وكذا قال الضحاك وقتادة {إلى ربوة ذات قرار ومعين} وهو بيت المقدس, فهذا ـ والله أعلم ـ هو الأظهر, لأنه المذكور في الاَية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضاً, وهذا أولى ما يفسر به, ثم الأحاديث الصحيحة ثم الاَثار.

** يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ * فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّىَ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال, فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح, فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام, وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالةً ونصحاً, فجزاهم الله عن العباد خيراً. قال الحسن البصري في قوله: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} قال: أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم, ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك {كلوا من الطيبات} يعني الحلال. وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه, وفي الصحيح «وما من نبي إلا رعى الغنم» قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال: «نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة». وفي الصحيح «إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده». وفي الصحيحين «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب القيام إلى الله قيام داود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع, حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال: بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم, وذلك في أول النهار وشدة الحر, فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة ؟ فقالت: اشتريتها من مالي, فشرب منه, فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن, مرثية لك من طول النهار, وشدة الحر, فرددت إلي الرسول فيه, فقال لها: «بذلك أمرت الرسل: أن لا تأكل إلا طيباً, ولا تعمل إلا صالحاً». وقد ثبت في صحيح مسلم)وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له, من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب فأنى يستحاب لذلك» وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق.
وقوله: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة, وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ولهذا قال {وأنا ربكم فاتقون} وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء, وأن قوله {أمة واحدة} منصوب على الحال. وقوله: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبر} أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء {كل حزب بما لديهم فرحون} أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون, ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً: {فذرهم في غمرتهم} أي في غيهم وضلالهم {حتى حين} أي إلى حين حينهم وهلاكهم, كما قال تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويد} وقال تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}.
وقوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم {نحن أكثر أمولاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم, بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء, ولهذا قال: {بل لا يشعرون} كما قال تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدني} الاَية. وقال تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثم} وقال تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم} الاَية, وقال: {ذرني ومن خلقت وحيداً ـ إلى قوله ـ عنيد} وقال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالح} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة.
قال قتادة في قوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} قال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم, يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم, ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني, حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم, وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الدين إلا لمن أحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه, ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قالوا: وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال: «غشمه وظلمه, ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه, ولا يتصدق به فيقبل منه, ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار, إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن, إن الخبيث لا يمحو الخبيث».